فصل: الباب السادس عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


الفصل السابع‏:‏ في الفرق بينه، وبين النسخ، والاستثناء

إن التخصيص لا يكون إلا فيما تناوله اللفظ بخلاف النسخ، ولا يكون إلا قبل العمل بخلاف النسخ، فإنه يجوز قبل العمل، وبعده، ويجوز نسخ شريعة بأخرى، ولا يجوز تخصيصها بها، والاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على شيء واحد، ولا يثبت بالقرينة الحالية، ولا يجوز تأخيره بخلاف التخصيص‏.‏ قال الإمام فخر الدين‏:‏ والتخصيص كالجنس للثلاثة لاشتراكها في الإخراج، فالتخصيص، والاستثناء إخراج الأشخاص، والنسخ إخراج الأزمان‏.‏

الباب السابع‏:‏ في أقل الجمع

قال القاضي أبو بكر‏:‏ مذهب مالك - رحمه الله - أن أقل الجمع اثنان، ووافقه القاضي على ذلك، والأستاذ أبو إسحاق، وعبد الملك ابن الماجشون من أصحابه، وعند الشافعي، وأبي حنيفة رحمهما الله ثلاثة، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن مالك رحمهما الله، وعندي أن محل الخلاف مشكل، فإنه إن كان الخلاف في صيغة الجمع التي هي الجيم، والميم، والعين لم يحسن إثبات الحكم لغيرها من الصيغ، وقد اتفقوا على ذلك، وإن كان في غيرها من صيغ الجموع، فهي على قسمين جمع قلة، وهو جمع السلامة مذكرا، أو مؤنثا، ومن جمع التكسير القلة ما في قول الشاعر‏:‏

بأفعل، وبأفعال، وأفعلة وفعلة يعرف الأدنى من العدد‏.‏

وجمع كثرة، وهي ما عدا ذلك، فجموع القلة للعشرة، فيما دون ذلك، وجموع الكثرة للأحد عشر، فأكثر هذا هو نقل العلماء، ثم قد يستعار كل واحد منهما للآخر مجازا، والخلاف في هذه المسألة إنما هو في الحقيقة اللغوية، فإن كان الخلاف في جموع الكثرة، فأقل مراتبها أحد عشر، فلا معنى للقول بالاثنين، ولا بالثلاثة، وإن كان في جموع القلة، فهو يستقيم لكنهم لما أثبتوا الأحكام، والاستدلال في جموع الكثرة علمنا أنهم غير مقتصرين عليها، وأن محل الخلاف ما هو أعم منها، ولا هي‏.‏

الباب الثامن‏:‏ في الاستثناء

وفيه ثلاثة فصول‏:‏

الفصل الأول‏:‏ في حده،

وهو عبارة عن إخراج بعض ما دل اللفظ عليه ذاتا كان، أو عددا، أو ما لم يدل عليه، وهو إما محل المدلول، أو أمر عام بلفظ إلا، أو ما يقوم مقامها، فالذات نحو رأيت زيدا إلا يده، والعدد إما متناه نحو قوله عندي عشرة إلا اثنين، أو غير متناه نحو اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة، ومحل المدلول نحو أعتق رقبة إلا الكفار، وصل إلا عند الزوال إذا قلنا بأن الأمر ليس للتكرار، فإن الرقبة أمر مشترك عام تقبل أن تعين في محال كثيرة من الأشخاص، فإن كل شخص هو محل لأعمه، وكذلك الفعل حقيقة كلية تقبل أن تقع في أي زمان كان، فالأزمنة محال الأفعال، والأشخاص محال الحقائق، والأمر العام نحو قوله سبحانه‏:‏ لتأتنني به إلا أن يحاط بكم‏.‏ أي لتأتنني به في كل حالة من الحالات إلا في حالة الإحاطة بكم، فالحالة أمر عام لم يدل عليها اللفظ، وكذلك محال المدلول ليست مدلولة اللفظ، فإن فرعت على أن الاستثناء المنقطع مجاز، فقد كمل الحد، فإنا إنما نحد الحقيقة، وإن قلت هو حقيقة ردت بعد قولك، أو أمر عام، أو ما يعرض في نفس المتكلم، وتكون أو للتنويع، كأنك قلت أي شيء وقع على وجه من هذه الوجوه، فهو استثناء‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في أقسامه

وهو ينقسم إلى الإثبات، والنفي، والمتصل والمنقطع، وضبطهما مشكل، فينبغي أن تتأمله، فإن كثيرا من الفضلاء يعتقدون أن المنقطع عبارة عن الاستثناء من غير الجنس، وليس كذلك، فإن قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏)‏‏.‏ منقطع على الأصح مع أن المحكوم عليه بعد إلا هو بعض المحكوم عليه أولا، ومن جنسه، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة‏)‏‏.‏ منقطع مع أن المحكوم عليه بعد إلا هو عين الأموال التي حكم عليها قبل إلا بل ينبغي أن تعلم أن المتصل عبارة عن أن تحكم على جنس ما حكمت عليه أولا بنقيض ما حكمت عليه به أولا، فمتى انخرم قيد من هذين القيدين كان منقطعا، فيكون المنقطع هو أن تحكم على غير جنس ما حكمت عليه أولا، أو بغير نقيض ما حكمت به أولا، وعلى هذا يكون الاستثناء في الآيتين منقطعا للحكم فيهما بغير النقيض، فإن نقيض لا يذوقون فيها الموت يذوقون فيها الموت، ولم يحكم به بل بالذوق في الدنيا، ونقيض لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل كلوها بالباطل، ولم يحكم به، وعلى هذا الضابط تخرج جميع أقوال العلماء في الكتاب، والسنة، ولسان العرب‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في أحكامه

اختار الإمام فخر الدين أن المنقطع مجاز، وفيه خلاف، ووافقه القاضي عبد الوهاب، وذكر أن قول القائل له عندي مائة دينار إلا ثوبا من هذا الباب، وأنه جائز على المجاز، وأنه يرجع إلى المعنى بطريق القيمة خلافا لمن قال إنه مقدر بلكن، ولمن قال إنه كالمتصل، ويجب اتصال الاستثناء بالمستثنى منه عادة خلافا لابن عباس - رضي الله عنه -‏.‏ قال الإمام فخر الدين إن صح النقل عنه يحمل على ما إذا نوى عند التلفظ، ثم أظهره بعد ذلك، واختار القاضي عبد الوهاب جواز استثناء الأكثر، ووافقه الإمام فخر الدين، واختار القاضي أبو بكر أنه يجب أن يكون أقل، وقيل قد يجوز المساوي دون الأكثر لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك‏)‏‏.‏ ومعلوم أنه أكثر، والاستثناء من الإثبات نفي اتفاقا، ومن النفي إثبات خلافا لأبي حنيفة - رحمه الله -، ومن أصحابه المتأخرين من يحكي التسوية بينهما في عدم إثبات نقيض المحكوم به بعد إلا لنا انه المتبادر عرفا، فيكون لغة لأن الأصل عدم النقل، والتغيير‏.‏

واعلم أن الكل اتفقوا على إثبات نقيض ما قبل الاستثناء لما بعده، ولكنهم اختلفوا، فنحن نثبت نقيض المحكوم به، والحنفية يثبتون نقيض الحكم، فيصير ما بعد الاستثناء غير محكوم عليه بنفي، ولا إثبات، وإذا تعقب الاستثناء الجمل يرجع إلى جملتها عند مالك، والشافعي رحمهما الله، وعند أصحابهما، وإلى الأخيرة عند أبي حنيفة، ومشترك بين الأمرين عند الشريف المرتضى، ومنهم من فصل، فقال‏:‏ إن تنوعت الجملتان بأن تكون إحداهما خبرا، والأخرى أمرا عاد إلى الأخيرة فقط، وإن لم تتنوع الجملتان، ولا كان حكم إحداهما في الأخرى، ولا أضمر اسم إحداهما في الأخرى، فكذلك أيضا، وإلا عاد إلى الكل، واختاره الإمام فخر الدين، وتوقف القاضي أبو بكر منا في الجميع، وإذا عطف استثناء على استثناء، فإن كان الثاني بحرف عطف، أو هو أكثر من الاستثناء الأول، أو مساويا له عاد إلى أصل الكلام الاستحالة العطف في الاستثناء، وإخراج الأكثر، أو المساوي، وإلا عاد إلى الاستثناء الأول ترجيحا للقرب، ونفيا للغو الكلام‏.‏

فائدتان‏:‏

الأولى‏:‏ قد يكون الاستثناء عبارة عما لولاه لعلم دخوله، أو ما لولاه لظن دخوله، أو ما لولاه لجاز دخوله، أو ما لولاه لقطع بعدم دخوله، فهذه أربعة أقسام‏:‏ فالأول الاستثناء من النصوص نحو له عندي عشرة إلا اثنين، والثاني الاستثناء من الظواهر نحو اقتلوا المشركين إلا زيدا، والثالث الاستثناء من المحال، والأزمان، والأحوال نحو أكرم رجلا إلا زيدا، أو عمروا، وصل إلا عند الزول لتأتنني به إلا أن يحاط بكم، والرابع الاستثناء المنقطع نحو رأيت القوم إلا حمارا‏.‏

الثانية‏:‏ أن إطلاق العلماء أن الاستثناء من النفي إثبات يجب أن يكون مخصصا، فإن الاستثناء يرد على الإثبات، والشروط، والموانع، والأحكام، والأمور العامة التي لم ينطق بها، فالأول نحو لا عقوبة إلا بجناية، والثاني نحو لا صلاة إلا بطهارة، والثالث نحو لا تسقط الصلاة عن امرأة إلا بالحيض، والرابع نحو قام القوم إلا زيدا، والخامس نحو قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لتأتنني به إلا أن يحاط بكم‏)‏‏.‏ ولما كانت الشروط لا يلزم من وجودها الوجود، ولا العدم لم يلزم من الحكم بالنفي قبل الاستثناء لعدم الشرط الحكم بالوجود بعد الاستثناء لأجل وجوده، فيكون مطردا فيما عدا الشرط‏.‏

الباب التاسع‏:‏ في الشرط

وفيه ثلاثة فصول‏:‏

الفصل الأول‏:‏ في أدواته

وهي إن، وإذا، ولو، وما تضمن معنى إن، فإن تختص بالمشكوك فيه، وإذا تدخل على المعلوم، والمشكوك، ولو تدخل على الماضي بخلافهما‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في حقيقته

وهو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر، ويلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود، ولا عدم، ثم هو قد لا يوجد إلا متدرجا كدوران الحول، وقد يوجد دفعة كالنية، وقد يقبل الأمرين كالسترة، فيعتبر من الأول آخر جزء منه، ومن الثاني جملته، وكذلك الثالث لإمكان تحققه، فإن كان الشرط عدمه اعتبر أول أزمنة عدمه في الثلاثة‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في حكمه

إذا رتب مشروط على شرطين لا يحصل إلا عند حصولهما إن كانا على الجمع، وإن كانا على البدل حصل عند أحدهما، وإلى المعلق تعيينه لأن الحاصل أن الشرط هو المشترك بينهما‏.‏

وإذا دخل الشرط على جمل رجع إليها عند إمام الحرمين، والحنابلة، وإلى ما يليه عند بعض الأدباء، واختار الإمام فخر الدين التوقف‏.‏

واتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام، وعلى حسن التقييد به، وإن كان الخارج به أكثر من الباقي، ويجوز تقديمه في اللفظ، وتأخيره، واختار الإمام تقديمه خلافا للقراء جمعا بين التقدم الطبعي، والوضعي‏.‏

الباب العاشر‏:‏ في المطلق، والمقيد

التقييد، والإطلاق أمران اعتباريان، فقد يكون المقيد مطلقا بالنسبة إلى قيد آخر كالرقبة المملوكة هي مقيدة بالملك، وهي مطلقة بالنسبة إلى الإيمان، وقد يكون المطلق مقيدا كالرقبة مطلقة، وهي مقيدة بالرق‏.‏

والحاصل‏:‏ أن كل حقيقة إن اعتبرت من حيث هي هي، فهي مطلقة، وإن اعتبرت مضافة إلى غيرها، فهي مقيدة‏.‏

ووقوعه في الشرع على أربعة أقسام‏:‏

متفق الحكم، والسبب‏:‏ كإطلاق الغنم في حديث، وتقييدها في حديث آخر بالسوم‏.‏

ومختلف الحكم، والسبب‏:‏ كتقييد الشهادة بالعدالة، وإطلاق الرقبة في الظهار‏.‏

ومتحد الحكم مختلف السبب‏:‏ كالعتق مقيد في القتل مطلق في الظهار‏.‏

ومختلف الحكم متحد السبب‏:‏ كتقييد الوضوء بالمرافق، وإطلاق التيمم، والسبب واحد، وهو الحدث‏.‏

فالأول لا يحمل فيه المطلق على المقيد على الخلاف في دلالة المفهوم، وهو حجة عند مالك - رحمه الله -‏.‏

والثاني لا يحمل فيه إجماعا‏.‏

والثالث لا يحمل فيه المطلق على المقيد عند أكثر أصحابنا، وعند الحنفية خلافا لأكثر الشافعية لأن الأصل في اختلاف الأسباب اختلاف الأحكام، فيقتضي أحدهما التقييد، والآخر الإطلاق‏.‏

والرابع فيه خلاف‏:‏

فإن قيد بقيدين مختلفين في موضعين حمل على الأقيس منهما عند الإمام فخر الدين، ويبقى على إطلاقه عند الحنفية، ومتقدمي الشافعية‏.‏

الباب الحادي عشر‏:‏ في دليل الخطاب

وهو مفهوم المخالفة، وقد تقدمت حقيقته، وأنواعه العشرة‏.‏

وهو حجة عند مالك، وجماعة من أصحابه، وأصحاب الشافعي‏.‏

وخالف في مفهوم الشرط القاضي أبو بكر من أصحابنا، وأكثر المعتزلة‏.‏

وليس معنى ذلك أن المشروط لا يجب انتفاؤه عند انتفاء الشرط، فإنه متفق عليه بل معناه أن هذا الانتفاء ليس مدلولا للفظ‏.‏

وخالف في مفهوم الصفة أبو حنيفة، وابن سريج، والقاضي، وإمام الحرمين، وجمهور المعتزلة، ووافقنا الشافعي، والأشعري، وحكى الإمام أن مفهوم اللقب لم يقل به إلا الدقاق‏.‏

لنا‏:‏ أن التخصيص لو لم يقتض سلب الحكم عن المسكوت عنه للزم الترجيح من غير مرجح، وهو محال‏.‏

فرعان‏:‏

الأول‏:‏ أن المفهوم متى خرج مخرج الغالب، فليس بحجة إجماعا نحو قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‏)‏‏.‏ ولذلك يرد على الشافعية في قوله عليه السلام‏:‏ في سائمة الغنم الزكاة‏.‏ أنه خرج مخرج الغالب، فإن غالب أغنام الحجاز، وغيرها السوم‏.‏

الثاني‏:‏ أن التقييد بالصفة في جنس هل يقتضي نفي ذلك الحكم عن سائر الأجناس، فيقتضي الحديث مثلا نفي وجوب الزكاة عن سائر الأنعام، وغيرها، أو لا يقتضي نفيه إلا عن ذلك الجنس خاصة، وهو اختيار الإمام فخر الدين‏.‏

الباب الثاني عشر‏:‏ في المجمل، والمبين

وفيه ستة فصول

الفصل الأول‏:‏ في معنى ألفاظه

فالمبين هو‏:‏ اللفظ الدال بالوضع على معنى إما بالأصالة، وإما بعد البيان‏.‏

والمجمل هو‏:‏ الدائر بين احتمالين، فصاعدا إما بسبب الوضع، وهو المشترك، أو من جهة العقل كالمتواطئ بالنسبة إلى جزئياته، فكل مشترك مجمل، وليس كل مجمل مشتركا‏.‏

وقد يكون اللفظ مبينا من وجه، مجملا من وجه كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وآتوا حقه يوم حصاده‏)‏‏.‏ فإنه مبين في الحق مجمل في مقداره‏.‏

والمؤول هو‏:‏ الاحتمال الخفي مع الظاهر مأخوذ من المآل إما لأنه يؤول إلى الظهور بسبب الدليل العاضد، أو لأن العقل يؤول إلى فهمه بعد فهم الظاهر، وهذا وصف له بما هو موصوف به في الوقت الحاضر، فيكون حقيقة، وفي الأول باعتبار ما يصير إليه، وقد لا يقع، فيكون مجازا مطلقا‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ فيما ليس مجملا‏:‏

إضافة التحريم، والتحليل إلى الأعيان ليس مجملا، فيحمل على ما يدل العرف عليه في كل عين خلافا للكرخي، فيحمل في الميتة على الأكل، وفي الأمهات على وجوه الاستمتاع‏.‏

وإذا دخل النفي على الفعل كان مجملا عند أبي عبد الله البصري نحو قوله عليه السلام‏:‏ لا صلاة إلا بطهور، ولا نكاح إلا بولي لدوران النفي بين الكمال، والصحة، وقيل‏:‏ إن كان المسمى شرعيا انتفى، ولا إجمال‏.‏

وقولنا‏:‏ هذه صلاة فاسدة محمول على اللغوي‏.‏

وإن كان حقيقياً نحو الخطأ، والنسيان، وله حكم واحد انتفى، ولا إجمال، وإلا تحقق الإجمال، وهو قول الأكثرين‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في أقسامه‏:‏

المبين إما بنفسه كالنصوص، والظواهر، وإما بالتعليل كفحوى الخطاب، أو باللزوم كالدلالة على الشروط، والأسباب‏.‏

والبيان إما بالقول، أو بالفعل كالكتابة، والإشارة، أو بالدليل العقلي، أو بالترك، فيعلم أنه ليس واجبا، أو بالسكوت بعد السؤال، فيعلم عدم الحكم للشرع في تلك الحادثة‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ في حكمه

ويجوز ورود الجمل في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - خلافا لقوم‏.‏

لنا أن آية الجمعة، وآية الزكاة مجملتان، وهما في كتاب الله تعالى، ويجوز البيان بالفعل خلافا لقوم‏.‏

وإذا تطابق القول، والفعل، فالبيان القول، والفعل مؤكد له، وإن تنافيا نحو قوله عليه السلام‏:‏ من قرن الحج إلى العمرة، فليطف لهما طوافا واحدا، وطاف عليه الصلاة، والسلام لهما طوافين، فالقول مقدم لكونه يدل بنفسه‏.‏

ويجوز بيان المعلوم بالمظنون خلافا للكرخي‏.‏

الفصل الخامس‏:‏ في وقته

من جوز تكليف ما لا يطاق جوز تأخير البيان عن وقت الحاجة‏.‏

وتأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز عندنا سواء كان للخطاب ظاهر أريد خلافه، أو لم يكن خلافا لجمهور المعتزلة إلا في النسخ‏.‏

ومنع أبو الحسين منه، فيما له ظاهر أريد خلافه، وأوجب تقديم البيان الإجمالي دون التفصيلي بأن يقول‏:‏ هذا الظاهر ليس مرادا‏.‏

ويجوز له عليه الصلاة، والسلام تأخير ما يوحى إليه إلى وقت الحاجة‏.‏

لنا‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه‏)‏‏.‏ وكلمة، ثم للتراخي، فيجوز التأخير، وهو المطلوب‏.‏

الفصل السادس‏:‏ في المبين له

يجب البيان لمن أريد إفهامه فقط دون غيره، ثم المطلوب قد يكون علما فقط كالعلماء بالنسبة إلى الحيض، أو عملا فقط كالنساء بالنسبة إلى أحكام الحيض، وفقهه، أو العلم، والعمل كالعلماء بالنسبة إلى أحوالهم، أو لا علم، ولا عمل كالعلماء بالنسبة إلى الكتب السالفة‏.‏

ويجوز إسماع المخصوص بالعقل من غير التنبيه عليه وفاقا، والمخصوص بالسمع بدون بيان مخصصه عند النظام، وأبي هاشم، واختاره الإمام خلافا للجبائي، وأبي الهذيل‏.‏

الباب الثالث عشر‏:‏ في فعله عليه السلام

وفيه ثلاثة فصول‏:‏

الفصل الأول‏:‏ في دلالة فعله عليه السلام

إن كان بيانا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل في الوجوب، أو الندب، أو الإباحة‏.‏

وإن لم يكن بيانا، وفيه قربة، فهو عند مالك - رحمه الله -، وابن القصار، والأبهري، والباجي، وبعض الشافعية للوجوب، وعند الشافعي للندب، وعند القاضي أبي بكر، والإمام فخر الدين، وأكثر المعتزلة على الوقف‏.‏

وما لا قربة فيه كالأكل، والشرب، واللباس، فهو عند الباجي للإباحة، وعند بعض أصحابنا للندب‏.‏

وأما إقراره على الفعل، فيدل على جوازه‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في اتباعه

قال جماهير الفقهاء، والمعتزلة يجب اتباعه في فعله إذا علم وجهه وجب اتباعه في ذلك الوجه لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏)‏‏.‏ والأمر ظاهر في الوجوب، وقال أبو علي بن خلاد به في العبادات فقط‏.‏

وإذا وجب التأسي به وجب معرفة وجه فعله من الوجوب، والندب، والإباحة إما بالنص، أو بالتخيير بينه، وبين غيره مما علم فيه وجه ثبوته، فيسوى به، أو بما يدل على نفي قسمين، فيتعين الثالث، أو بالاستصحاب في عدم الوجوب، أو بالقربة على نفي الإباحة، فيتعين الندب، وبالقضاء على الوجوب، وبالإدامة مع الترك في بعض الأوقات على الندب، وبعلامة الوجوب عليه كالأذان، وبكونه جزءا لسبب الوجوب كالنذر‏.‏

تفريع‏:‏ إذا وجب الاتباع، وعارض فعله قوله، فإن تقدم القول، وتأخر الفعل نسخ الفعل القول، كان القول خاصا به، أو بأمته، أو عمهما، وإن تأخر القول، وهو عام له، ولأمته عليه السلام، أسقط حكم الفعل عن الكل‏.‏

وإن اختص بأحدهما خصصه عن عموم حكم الفعل‏.‏

وإن تعقب الفعل القول من غير تراخ، وعم القول له الأمته عليه السلام خصصه عن عموم القول‏.‏

وإن اختص بالأمة ترجح القول على الفعل، وإن اختص به جاز أن يكون نسخ الشيء قبل وقته، وإلا فلا، وإن لم يتقدم واحد منهما صحح القول لاستغنائه بدلالته عن غيره من غير عكس‏.‏

فإن عارض الفعل الفعل بأن يقر شخصا على فعل فعل عليه السلام ضده، فيعلم خروجه عنه، أو يفعل عليه السلام ضده في وقت يعلم لزوم مثله له فيه، فيكون نسخا للأول‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في تأسيه عليه السلام

مذهب مالك - رحمه الله -، وأصحابه أنه لم يكن متعبدا بشرع من قبله قبل نبوته، وقيل كان متعبدا‏.‏

لنا‏:‏ أنه لو كان كذلك لافتخرت به أهل تلك الملة، وليس، فليس‏.‏

وأما بعد نبوته‏:‏ فمذهب مالك، وجمهور أصحابه، وأصحاب الشافعي، وأبي حنيفة أنه كان متعبدا بشرع من قبله، وكذلك أمته إلا ما خصه الدليل‏.‏

ومنع منه القاضي أبو بكر، وجماعة من أصحابنا‏.‏

لنا قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏)‏‏.‏ وهو عام لأنه اسم جنس أضيف‏.‏

الباب الرابع عشر‏:‏ في النسخ، وفيه خمسة فصول

الفصل الأول‏:‏ في حقيقته

قال القاضي منا، والغزالي من الشافعية‏:‏ هو خطاب دل على ارتفاع حكم ثابت بخطاب متقدم على وجه لولاه لكان ثابتا، مع تراخيه عنه‏.‏

وقال الإمام فخر الدين‏:‏ الناسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الثابت بطريق لا يوجد بعده متراخيا عنه بحيث لولاه لكان ثابتا، ورأى أن الطريق أعم من الخطاب ليشمل سائل المدارك لأن الله تعالى نسخ وقوف الواحد للعشرة في الجهاد بثبوته للاثنين، وهما في القرآن، وقوله‏:‏ مثل الحكم لأن الثابت قبل النسخ غير المعدوم بعده، وقوله‏:‏ متراخيا لئلا يتهافت الخطاب، وقوله‏:‏ لكان ثابتا احترازا من المغيات نحو‏:‏ الخطاب بالإفطار بعد غروب الشمس، فإنه ليس ناسخا لوجوب الصوم‏.‏

وقال القاضي منا، والغزالي‏:‏ الحكم المتأخر يزيل المتقدم‏.‏

وقال الإمام، والأستاذ‏:‏ وجماعة هو بيان انتهاء مدة الحكم، وهو الحق لأنه لو كان دائما في نفس الأمر لعلمه الله تعالى دائما، فكان يستحيل نسخه لاستحالة انقلاب العلم، وكذلك الكلام القديم الذي هو خبر عنه‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في حكمه

وهو واقع، وأنكره بعض اليهود عقلا، وبعضهم سمعا، وبعض المسلمين مؤولا لما وقع من ذلك بالتخصيص‏.‏

لنا‏:‏ ما اتفقت عليه الأمم من أن الله تعالى شرع لآدم تزويج الأخ بأخته غير توءمته، وقد نسخ ذلك‏.‏

ويجوز عندنا، وعند الكافة نسخ القرآن خلافا لأبي مسلمة الأصفهاني لأن الله تعالى نسخ وقوف الواحد للعشرة في الجهاد بثبوته للاثنين، وهما في القرآن‏.‏

ويجوز نسخ الشيء قبل وقوعه عندنا خلافاً لأكثر الشافعية، والحنفية كنسخ ذبح إسحاق قبل وقوعه‏.‏

ويجوز نسخ الحكم لا إلى بدل خلافا لقوم كنسخ الصدقة في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فقدموا بين يدي نجواكم صدقة‏)‏‏.‏ لغير بدل‏.‏

ونسخ الحكم إلى الأثقل خلافا لبعض أهل الظاهر كنسخ عاشوراء برمضان‏.‏

ونسخ التلاوة دون الحكم، وبالعكس كنسخ الشيخ، والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة نكالا من الله مع بقاء الرجم‏.‏

والحكم دون تلاوة كما تقدم في الجهاد‏.‏

وهما معا لاستلزام إمكان المفردات إمكان المركب‏.‏

ونسخ الخبر إذا كان متضمنا لحكم عندنا خلافا لمن جوز مطلقا، أو منع مطلقا، وهو أبو علي، وأبو هاشم، وأكثر المتقدمين‏.‏

لنا‏:‏ أن نسخ الخبر يوجب عدم المطابقة، وهو محال، فإذا تضمن الحكم جاز نسخه لأنه مستعار له، ونسخ الحكم جائز كما لو عبرنا عنه بالأمر‏.‏

ويجوز نسخ ما قال فيه افعلوا أبدا خلافا لقوم لأن صيغة أبدا بمنزلة العموم في الأزمان، والعموم قابل للتخصيص، والنسخ‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في الناسخ، والمنسوخ

يجوز عندنا نسخ الكتاب بالكتاب، وعند الأكثرين، والسنة المتواترة بمثلها‏.‏

والآحاد بمثلها، وبالكتاب، وبالسنة المتواترة إجماعا‏.‏

وأما جواز نسخ الكتاب بالآحاد، فجائز عقلا غير واقع سمعا خلافا لبعض أهل الظاهر، والباجي منا مستدلا بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة‏.‏

لنا‏:‏ أن الكتاب متواتر قطعي، فلا يرفع بالآحاد المظنونة لتقدم العلم على الظن‏.‏

ويجوز نسخ السنة بالكتاب عندنا خلافا للشافعي، وبعض أصحابه‏.‏

لنا‏:‏ نسخ القبلة بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره‏)‏‏.‏ ولم يكن التوجه إلى بيت المقدس ثابتا بالكتاب عملا بالاستقراء‏.‏

ويجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة لمساواتها له في الطريق العلمي عند أكثر الأصحاب‏.‏

وواقع‏:‏ كنسخ الوصية للوارث بقوله عليه السلام‏:‏ لا وصية لوارث‏.‏ ونسخ الحبس في البيوت بالرجم، وقال الشافعي - رضي الله عنه -‏:‏ لم يقع لأن آية الحبس في البيوت نسخت بالجلد‏.‏

والإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به‏.‏

ويجوز نسخ الفحوى الذي هو مفهوم الموافقة تبعا للأصل، ومنع أبو الحسين من نسخه مع بقاء الأصل دفعا للتناقض بين تحريم التأفيف مثلا، وحل الضرب‏.‏

ويجوز النسخ به وفاقا لفظية كانت دلالته، أو عقلية على الخلاف، والعقل يكون ناسخا في حق من سقطت رجلاه، فإن الوجوب ساقط‏.‏ عنه قاله الإمام فخر الدين‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ فيما يتوهم أنه ناسخ

زيادة صلاة على الصلوات، أو عبادة على العبادات ليست نسخا وفاقا، وإنما جعل أهل العراق الوتر ناسخا لما فيه من رفع قوله تعالى‏:‏ ‏(‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏)‏‏.‏ فإن المحافظة على الوسطى تذهب لصيرورتها غير وسطى‏.‏

والزيادة على العبادة الواحدة ليست نسخا عند مالك - رحمه الله -، وعند أكثر أصحابه، والشافعي خلافا للحنفية، وقيل إن نفت الزيادة ما دل عليه المفهوم الذي هو دليل الخطاب، أو الشرط كانت نسخا، وإلا فلا، وقيل‏:‏ إن لم يجز الأصل بعدها، فهي نسخ، وإلا فلا‏.‏

فعلى مذهبنا زيادة التغريب على الجلد ليست نسخا، وكذلك تقييد الرقبة بالإيمان، وإباحة قطع السارق في الثانية، والتخيير بين الواجب، وغيره لأن المنع من إقامة الغير مقامه عقلي لا شرعي، وكذلك لو وجب الصوم إلى الشفق‏.‏

ونقصان العبادة نسخ لما سقط دون الباقي إن لم يتوقف، وإن توقف قال القاضي عبد الجبار هو نسخ في الجزء دون الشرط، واختار فخر الدين، والكرخي عدم النسخ‏.‏

الفصل الخامس‏:‏ فيما يعرف به النسخ

يعرف بالنص على الرفع، أو على ثبوت النقيض، أو الضد، ويعلم التاريخ بالنص على التأخير، أو السنة، أو الغزوة، أو الهجرة، ويعلم نسبة ذلك إلى زمان الحكم، أو برواية من مات قبل رواية الحكم الآخر‏.‏

قال القاضي عبد الجبار‏:‏ قول الصحابي في الخبرين المتواترين‏:‏ هذا قبل ذاك مقبول، وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم كثبوت الإحصان بشهادة اثنين بخلاف الرجم، وشهادة النساء في الولادة دون النسب، وقال الإمام فخر الدين‏:‏ قول الصحابي هذا منسوخ لا يقبل لجواز أن يكون اجتهادا منه، وقال الكرخي‏:‏ إن قال ذا نسخ ذاك لم يقبل، وان قال هذا منسوخ قبل لأنه لم يخل للاجتهاد مجالا، فيكون قاطعا به وضعفه الإمام‏.‏

الباب الخامس عشر‏:‏في الإجماع

وفيه خمسة فصول

الفصل الأول‏:‏ في حقيقته

وهو اتفاق أهل الحل، والعقد من هذه الأمة على أمر من الأمور، ونعني بالاتفاق الاشتراك إما في القول، أو في الفعل، أو الاعتقاد‏.‏

وبأهل الحل، والعقد‏:‏ المجتهدين في الأحكام الشرعية‏.‏

وبأمر من الأمور‏:‏ الشرعيات، والعقليات، والعرفيات‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في حكمه

وهو عند الكافة حجة خلافا للنظام، والشيعة، والخوارج لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى‏)‏‏.‏ الآية، وثبوت الوعيد على المخالفة يدل على وجوب المتابعة‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ لا تجتمع أمتي على خطأ‏.‏ يدل على ذلك‏.‏

وعلى منع القول الثالث، وعدم الفصل فيما جمعوه، فإن جميع ما خالفهم يكون خطأ لتعيين الحق في جهتهم‏.‏

وإذا اختلف أهل العصر الأول على قولين، فلا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث عند الأكثرين، وجوزه أهل الظاهر، وفصل الإمام فخر الدين، فقال‏:‏ إن لزم منه خلاف ما أجمعوا عليه امتنع، وإلا فلا كما قيل للجد كل المال، وقيل يقاسم الأخ، فالقول بجعل المال كله للأخ مناقض للأول‏.‏

وإذا أجمعت الأمة على عدم الفصل بين مسألتين لا يجوز لمن بعدهم الفصل بينهما‏.‏

ويجوز حصول الاتفاق بعد الاختلاف في العصر الواحد خلافا للصيرفي، وفي العصر الثاني لنا، وللشافعية، والحنفية فيه قولان مبنيان على أن إجماعهم على الخلاف يقتضي أنه الحق، فيمتنع الاتفاق، أو هو مشروط بعدم الاتفاق، وهو الصحيح‏.‏

وانقراض العصر ليس شرطا خلافا لقوم من الفقهاء، والمتكلمين لتجدد الولادة في كل يوم، فيتعذر الإجماع‏.‏

وإذا حكم بعض الأمة، وسكت الباقون، فعند الشافعي، والإمام فخر الدين أنه ليس بحجة، ولا إجماع، وعند الجبائي إجماع، وحجة بعد انقراض العصر، وعند أبي هاشم ليس بإجماع، وهو حجة، وعند أبي علي بن أبي هبيرة إن كان القائل حاكما لم يكن إجماعا، ولا حجة، وإن كان غيره، فهو إجماع، وحجة‏.‏

فإن قال بعض الصحابة قولا، ولم يعرف له مخالف‏.‏ قال الإمام فخر الدين إن كان مما تعم به البلوى، ولم ينتشر ذلك القول فيهم، فيحتمل أن يكون فيهم مخالف لم يظهر، فيجري مجرى قول البعض، وسكوت البعض، وإن كان مما لا تعم به البلوى، فليس بإجماع، ولا حجة، وإذا جوزنا الإجماع السكوتي، فكثير ممن لم يعتبرانقراض العصر في القولي اعتبره في السكوتي‏.‏

والإجماع المروي بالآحاد حجة خلافا لأكثر الناس لأن هذه الإجماعات وإن لم تفد القطع، فهي تفيد الظن، والظن معتبر في الأحكام كالقياس، وخبر الواحد غير أنا لا نكفر مخالفها قاله الإمام قال‏:‏ وإذا استدل أهل العصر الأول بدليل، وذكروا تأويلا، واستدل العصر الثاني بدليل آخر، وذكروا تأويلا آخر، فلا يجوز إبطال التأويل القديم، وأما الجديد، فإن لزم منه إبطال القديم بطل، وإلا فلا‏.‏

وإجماع أهل المدينة عند مالك - رحمه الله -، فيما طريقه التوقيف حجة خلافا للجميع‏.‏

ومن الناس من اعتبر إجماع أهل الكوفة‏.‏

وإجماع العترة عند الإمامية‏.‏

وإجماع الخلفاء الأربعة حجة عند أبي حازم، ولم يعتد بخلاف زيد في توريث ذوي الأرحام‏.‏

قال الإمام فخر الدين‏:‏ وإجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة خلافا لقوم‏.‏

قال‏:‏ ومخالفة من خالفنا في الأصول إن كفرناهم لم نعتبرهم، ولا يثبت تكفيرهم بإجماعنا لأنه فرع تكفيرهم، وإن لم نكفرهم اعتبرناهم‏.‏

ويعتبر عند أصحاب مالك - رحمه الله - مخالفة الواحد في إبطال الإجماع خلافا لقوم‏.‏

وهو مقدم على الكتاب، والسنة، والقياس‏.‏

واختلف في تكفير مخالفه بناء على أنه قطعي، وهو الصحيح، ولذلك قدم على الكتاب، والسنة، وقيل ظني‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في مستنده

ويجوز عند مالك - رحمه الله - انعقاده عن القياس، والدلالة، والأمارة وجوزه قوم بغير ذلك بمجرد الشبهة، والبحث‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ لا ينعقد عن الأمارة بل لا بد من الدلالة‏.‏

ومنهم من فصل بين الأمارة الجلية، وغيرها‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ في المجمعين‏:‏

فلا يعتبر فيه جملة الأمة إلى يوم القيامة لانتفاء، فائدة الإجماع‏.‏

ولا العوام عند مالك - رحمه الله -، وعند غيره خلافا للقاضي لأن الاعتبار فرع الأهلية، ولا أهلية، فلا اعتبار‏.‏

والمعتبر في كل فن أهل الاجتهاد في ذلك الفن، وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره، فيعتبر في الكلام المتكلمون، وفي الفقه الفقهاء، قاله الإمام فخر الدين، وقال‏:‏ لا عبرة بالفقيه الحافظ للأحكام، والمذاهب إذا لم يكن مجتهدا‏.‏

والأصولي المتمكن من الاجتهاد غير الحافظ للأحكام خلافه معتبر على الأصح‏.‏

ولا يشترط بلوغ المجمعين إلى حد التواتر بل لو لم يبق والعياذ بالله إلا واحد كان قوله حجة‏.‏

وإجماع غير الصحابة حجة خلافا لأهل الظاهر‏.‏

الفصل الخامس‏:‏ في المجمع عليه‏:‏

كل ما يتوقف العلم بكون الإجماع حجة عليه لا يثبت بالإجماع كوجود الصانع، وقدرته، وعلمه، والنبوة، وما لا يتوقف عليه كحدوث العالم، والوحدانية، فيثبت‏.‏

واختلفوا في كونه حجة في الحروب، والآراء‏.‏

ويجوز اشتراكهم في عدم العلم بما لم يكلفوا به‏.‏

الباب السادس عشر

في الخبر، وفيه عشرة فصول

الفصل الأول‏:‏ في حقيقته

وهو المحتمل للصدق، والكذب لذاته احترازا من خبر المعصوم، والخبر عن خلاف الضرورة، وقال الجاحظ‏:‏ ويجوز عروه عن الصدق، والكذب، والخلاف لفظي‏.‏

واختلفوا في اشتراط الإرادة في حقيقة كونه خبرا، وعند أبي علي، وأبي هاشم الخبرية معللة بتلك الإرادة، وأنكره الإمام لخفائها، فكان يلزم أن لا يعلم خبر البتة، ولاستحالة قيام الخبرية بمجموع الحروف لعدمه، ولا ببعضه، وإلا لكان خبرا، وليس، فليس‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في التواتر‏:‏

وهو مأخوذ من مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما، وفي الاصطلاح خبر أقوام عن أمر محسوس يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة‏.‏

وأكثر العقلاء على أنه مفيد للعلم في الماضيات، والحاضرات‏.‏

والسمنية‏:‏ أنكروا العلم، واعترفوا بالظن، ومنهم من اعترف به في الحاضرات فقط‏.‏

والعلم الحاصل منه ضروري عند الجمهور خلافا لأبي الحسين البصري، وإمام الحرمين، والغزالي، والمرتضي‏.‏

والأربعة لا تفيد، العلم قاله القاضي أبو بكر، وتوقف في الخمسة‏.‏

قال الإمام فخر الدين‏:‏ والحق أن عددهم غير محصور خلافا لمن حصرهم في اثني عشر عدة نقباء موسى عليه السلام، أو عشرين عند أبي الهذيل لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏)‏‏.‏ أو أربعين لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏)‏‏.‏ وكانوا حينئذ أربعين، أو سبعين عدد المختارين من قوم موسى عليه السلام، أو ثلاثمائة عدد أهل بدر، أو عشرة عدد بيعة الرضوان‏.‏

وهو ينقسم إلى اللفظي، وهو‏:‏ أن تقع الشركة بين ذلك العدد في اللفظ المروي‏.‏

والمعنوي، وهو‏:‏ وقوع الاشتراك في معنى عام كشجاعة علي، وسخاء حاتم‏.‏

وشرطه على الإطلاق‏:‏ إن كان المخبر لنا غير المباشر، استواء الطرفين، والواسطة، وإن كان المباشر، فيكون المخبر عنه محسوسا، فإن الإخبار عن العقليات لا يحصل العلم‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في الطرق المحصلة للعلم غير التواتر

وهي سبعة‏:‏ كون المخبر عنه معلوما بالضرورة، أو الاستدلال، أو خبر الله تعالى، أو خبر الرسول عليه السلام، أو خبر مجموع الأمة، أو الجمع العظيم عن الوجدانيات في نفوسهم، أو القرائن عند إمام الحرمين، والغزالي، والنظام خلافا للباقين‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ في الدال على كذب الخبر

وهو خمسة‏:‏ منافاته لما علم بالضرورة، أو النظر، أو الدليل القاطع، أو فيما شأنه أن يكون متواترا، ولم يتواتر كسقوط المؤذن يوم الجمعة، ولم يخبر إلا واحد، وكقواعد الشرع أولهما جميعا كالمعجزات، أو طلب في صدور الرواة، أو كتبهم بعد استقراء الأحاديث، فلم يوجد‏.‏

الفصل الخامس‏:‏ في خبر الواحد

وهو خبر العدل، أو العدول المفيد للظن، وهو عند مالك - رحمه الله -، وعند أصحابه حجة‏.‏

واتفقوا على جواز العمل به في الدنيويات، والفتوى، والشهادات‏.‏

والخلاف إنما هو في كونه حجة في حق المجتهدين، فالأكثرون على أنه حجة لمبادرة الصحابة رضى الله عنهم إلى العمل به‏.‏

ويشترط في المخبر‏:‏ العقل، والتكليف، وإن كان تحمل الصبي صحيحا، والإسلام، والضبط‏.‏

واختلف في المبتدعة إذا كفرناهم‏:‏ فعند القاضي أبي بكر منا، والقاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم، وفصل الإمام فخر الدين، وأبو الحسين بين من يبيح الكذب، وغيره‏.‏

والصحابة رضوان الله عليهم عدول إلا عند قيام المعارض، والعدالة اجتناب الكبائر، وبعض الصغائر، والإصرار عليها، والمباحات القادحة في المروءة‏.‏

ثم الفاسق‏:‏ إن كان فسقه مظنونا قبلت روايته بالاتفاق، وإن كان مقطوعا به قبل الشافعي رواية أرباب الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لتجويزهم الكذب لموافقة مذهبهم، ومنع القاضي أبو بكر من قبولها‏.‏

واختلف العلماء في شارب النبيذ من غير سكر، فقال الشافعي‏:‏ أحده، وأقبل شهادته بناء على أن فسقه مظنون، وقال مالك - رحمه الله -‏:‏ أحده، ولا أقبل شهادته كأنه قطع بفسقه‏.‏

وقال الحنفية‏:‏ يقبل قول المجهول‏.‏

وتثبت العدالة‏:‏ إما بالاختبار، أو بالتزكية، واختلف الناس في اشتراط العدد في التزكية، والتجريح، فشرطه بعض المحدثين في التزكية، والتجريح في الرواية، والشهادة، واشترطه القاضي أبو بكر في تزكية الشهادة فقط، واختاره الإمام فخر الدين‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ يشترط إبداء سبب التجريح دون التعديل لاختلاف المذاهب في ذلك، والعدالة شيء واحد، وعكس قوم لوقوع الاكتفاء بالظاهر في العدالة دون التجريح، ونفى ذلك القاضي أبو بكر فيهما‏.‏

ويقدم الجرح على التعديل إلا أن يجرحه بقتل إنسان، فيقول المعدل رأيته حيا، وقيل يقدم المعدل إذا زاد عدده‏.‏

الفصل السادس‏:‏ في مستند الراوي‏:‏

فأعلاه أن يعلم قراءته على شيخه، أو إخباره به، أو بتفكر ألفاظ قراءته‏.‏

وثانيها‏:‏ أن يعلم قراءة جميع الكتاب، ولا يذكر الألفاظ، ولا الوقت‏.‏

وثالثها‏:‏ أن يشك في سماعه، فلا يجوز له روايته بخلاف الأولين‏.‏

ورابعها‏:‏ أن يعتمد على خطه، فيجوز عند الشافعي، وأبي يوسف، ومحمد خلافا لأبي حنيفة‏.‏

الفصل السابع‏:‏ في عدده‏:‏

والواحد عندنا، وعند جمهور الفقهاء يكفي خلافا للجبائي في اشتراطه اثنين، أو يعضد الواحد ظاهر، أو عمل بعض الصحابة، أو اجتهاد، أو يكون منتشرا فيهم‏.‏

ولم يقبل في الزنا إلا أربعة‏.‏

لنا‏:‏ أن الصحابة قبلوا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين وحدها، وهو مما تعم به البلوى‏.‏

الفصل الثامن‏:‏ فيما اختلف فيه من الشروط في القبول

قال الحنفية‏:‏ إذا لم يقبل راوي الأصل الحديث لا تقبل رواية الفرع‏.‏ قال الإمام إن جزم كل واحد منهما لم تقبل، وإلا عمل بالراجح، وقال أكثر أصحابنا، والشافعية، والحنفية إذا شك الأصل في الحديث لا يضر ذلك خلافا للكرخي‏.‏

والمنقول عن مالك - رحمه الله - أن الراوي إذا لم يكن فقيها، فإنه كان يترك روايته، ووافقه أبو حنيفة، وخالفه الإمام، وجماعة‏.‏

قال الإمام فخر الدين‏:‏ ولا يخل بالراوي تساهله في غير الحديث، ولا جهله بالعربية، ولا الجهل بنسبه، ولا خلاف أكثر الأمة لروايته‏.‏

وقد اتفقوا على أن مخالفة الحفاظ لا تمنع من القبول، ولا كونه على خلاف الكتاب خلافا لعيسى بن أبان، ولا كون مذهبه بخلاف روايته، وهو مذهب أكثر أصحابنا، وفيه أربعة مذاهب‏:‏

قال الحنفية‏:‏ إن خصصه رجع إلى مذهب الراوي لأنه أعلم‏.‏

وقال الكرخي‏:‏ ظاهر الخبر أولى، وقال الشافعي‏:‏ إن خالف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث، وإن كان أحد الاحتمالين رجع إليه‏.‏

وقال القاضي عبد الجبار‏:‏ إن كان تأويله على خلاف الضرورة ترك، وإلا وجب النظر في ذلك‏.‏

وإذا ورد الخبر في مسألة علمية، وليس في الأدلة القطعية ما يعضده رد لأن الظن لا يكفي في القطعيات، وإلا قبل‏.‏

وإن اقتضى عملا تعم به البلوى قبل عند المالكية، والشافعية خلافا للحنفية‏.‏ لنا‏:‏ حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم في التقاء الختانين‏.‏

الفصل التاسع‏:‏ في كيفية الرواية‏:‏

إذا قال الصحابي سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أخبرني، أو شافهني، فهذا أعلى المراتب‏.‏

وثانيها‏:‏ أن يقول‏:‏ قال عليه السلام‏.‏

وثالثها‏:‏ أمر عليه السلام بكذا، أو نهى عن كذا، وهذا كله محمول عند المالكية على أمر النبي عليه الصلاة والسلام خلافا لقوم‏.‏

ورابعها‏:‏ أن يقول‏:‏ أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، فعندنا، وعند الشافعي يحمل على أمره عليه السلام خلافا للكرخي‏.‏

وخامسها‏:‏ أن يقول‏:‏ السنة كذا، فعندنا يحمل على سنته عليه السلام خلافا لقوم‏.‏

وسادسها‏:‏ أن يقول‏:‏ عن النبي عليه السلام‏:‏ قيل يحمل على سماعه هو، وقيل لا‏.‏

وسابعها‏:‏ كنا نفعل كذا، وهو يقتضي كونه شرعا‏.‏

وأما غير الصحابي، فأعلى مراتبه أن يقول‏:‏ حدثني، أو أخبرني، أو سمعته، وللسامع منه أن يقول‏:‏ حدثني، وأخبرني، وسمعته يحدث عن فلان إن قصد إسماعه خاصة، أو في جماعة، وإلا فيقول سمعته يحدث‏.‏

وثانيها أن يقال له‏:‏ أسمعت هذا من فلان، فيقول نعم، أو يقول بعد الفراغ‏:‏ الأمر كما قرئ، فالحكم فيه مثل الأول في وجوب العمل، ورواية السامع‏.‏

وثالثها‏:‏ أن يكتب إلى غيره سماعه، فللمكتوب إليه أن يعمل بكتابه إذا تحققه، أو ظنه، ولا يقول سمعت، ولا حدثني، ويقول أخبرني‏.‏

ورابعها‏:‏ أن يقال له‏:‏ هل سمعت هذا‏؟‏ فيشير بأصبعه، أو برأسه، فيجب العمل به، ولا يقول المشار إليه أخبرني، ولا حدثني، ولا سمعته‏.‏

وخامسها‏:‏ أن يقرأ عليه، فلا ينكر بإشارة، ولا عبارة، ولا يعترف، فإن غلب على الظن اعترافه لزم العمل، وعامة الفقهاء جوزوا روايته، وأنكرها المتكلمون، وقال بعض المحدثين ليس له أن يقول إلا أخبرني قراءة عليه، وكذلك الخلاف لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث أرويه عنك قال نعم، وهو السادس‏.‏

وفي مثل هذا اصطلاح للمحدثين، وهو من مجاز التشبيه شبه السكوت بالإخبار‏.‏

وسابعها‏:‏ إذا قال له‏:‏ حدث عني ما في هذا الكتاب، ولم يقل له سمعته، فإنه لا يكون محدثا له به، وإنما أذن له في التحدث عنه‏.‏

وثامنها‏:‏ الإجازة‏:‏ تقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث به، وذلك إباحة للكذب لكنه في عرف المحدثين معناه أن ما صح عندك أني سمعته، فاروه عني‏.‏

والعمل عندنا بالإجازة جائز خلافا لأهل الظاهر في اشتراطهم المناولة، وكذلك إذا كتب إليه أن الكتاب الفلاني رويته، فاروه عني إذا صح عندك، فإذا صح عنده جازت له الرواية‏.‏

وكذلك إذا قال له مشافهة‏:‏ ما صح عندك من حديثي، فاروه عني‏.‏

الفصل العاشر‏:‏ في مسائل شتى

فالأولى‏:‏ المراسيل عند مالك، وأبي حنيفة، وجمهور المعتزلة حجة خلافا للشافعي لأنه إنما أرسل حيث جزم بالعدالة، فتكون حجة‏.‏

ونقل الخبر بالمعنى عند أبي الحسين، والشافعي، وأبي حنيفة رضي الله عنهم جائز خلافا لابن سيرين، وبعض المحدثين بثلاثة شروط‏:‏ ألا تزيد الترجمة، ولا تنقص، ولا تكون أخفى لأن المقصود إنما هو إيصال المعاني، فلا يضر فوات غيرها‏.‏

وإذا زادت إحدى الروايتين على الأخرى، والمجلس مختلف قبلت، وإن كان واحدا، ويتأتى الذهول عن تلك الزيادة فيه قبلت، وإلا لم تقبل‏.‏

الباب السابع عشر‏:‏ في القياس

وفيه سبعة فصول

الفصل الأول‏:‏ في حقيقته

وهو‏:‏ إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتراكهما في علة الحكم عند المثبت‏.‏

فالإثبات‏:‏ المراد به المشترك بين العلم، والاعتقاد، والظن‏.‏

ونعني بالمعلوم المشترك بين المظنون، والمعلوم‏.‏

وقولنا عند المثبت ليدخل فيه القياس الفاسد‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في حكمه

وهو حجة عند مالك، وجماهير العلماء رضي الله عنهم خلافا لأهل الظاهر لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فاعتبروا يا أولى الأبصار‏)‏‏.‏ ولقول معاذ - رضي الله عنه - أجتهد رأيي بعد ذكره الكتاب، والسنة‏.‏

وهو مقدم على خبر الواحد عند مالك - رحمه الله - لأن الخبر إنما يرد لتحصيل الحكم، والقياس متضمن للحكمة، فيقدم على الخبر‏.‏

وهو حجة في الدنيويات اتفاقا‏.‏

وهو إن كان بإلغاء الفارق، فهو تنقيح المناط عند الغزالي، أو باستخراج الجامع من الأصل، ثم تحقيقه في الفرع، فالأول تخريج المناط، والثاني تحقيقه‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في الدال على العلة

وهو ثمانية‏:‏ النص، والإيماء، والمناسبة، والشبه، والدوران، والسبر، والطرد، وتنقيح المناط‏.‏

فالأول‏:‏ النص على العلة، وهو ظاهر‏.‏

والثاني‏:‏ الإيماء، وهو خمسة‏:‏ الفاء نحو قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد‏)‏‏.‏ وترتيب الحكم على الوصف نحو ترتيب الكفارة على قوله‏:‏ واقعت أهلي في شهر رمضان‏.‏ قال الإمام فخر الدين‏:‏ سواء كان مناسبا، أو لم يكن، وسؤاله عليه السلام عن وصف المحكوم عليه نحو قوله عليه السلام‏:‏ أينقص الرطب إذا جف‏.‏ وتفريق الشارع بين شيئين في الحكم نحو قوله عليه السلام‏:‏ القاتل لا يرث‏.‏

أو ورود النهي عن فعل يمنع ما تقدم وجوبه‏.‏

الثالث‏:‏ المناسب‏:‏ ما تضمن تحصيل مصلحة، أو درء مفسدة، فالأول كالغني علة لوجوب الزكاة، والثاني كالإسكار علة لتحريم الخمر‏.‏

والمناسب ينقسم إلى ما هو في محل الضرورات، وإلى ما هو في محل الحاجات، وإلى ما هو في محل التتمات، فيقدم الأول على الثاني، والثاني على الثالث عند التعارض‏.‏

فالأول نحو الكليات الخمس‏:‏ وهي حفظ النفوس، والأديان، والأنساب، والعقول، والأموال، وقيل، والأعراض‏.‏

والثاني مثل تزويج الولي الصغيرة، فإن النكاح غير ضروري لكن الحاجة تدعو إليه في تحصيل الكفء لئلا يفوت‏.‏

والثالث‏:‏ ما كان حثا على مكارم الأخلاق كتحريم تناول القاذورات وسلب أهلية الشهادات عن الأرقاء، ونحو الكتابات، ونفقات القرابات، وتقع أوصاف مترددة بين هذه المراتب كقطع الأيدي باليد الواحدة، فإن شرعيته ضرورية صونا للأطراف، وللأعضاء، وإن أمكن أن يقال ليس منه لأنه يحتاج الجاني فيه إلى الاستعانة بالغير، وقد يتعذر‏.‏

ومثال اجتماعها كلها في وصف واحد‏:‏ أن نفقة النفس ضرورية، والزوجات حاجية، والأقارب تتمة، واشتراط العدالة في الشهادة ضروري صونا للنفوس، والأموال، وفي الإمامة على الخلاف حاجة لأنها شفاعة، والحاجة داعية لإصلاح حال الشفيع، وفي النكاح تتمة لأن الولي قريب يزعه طبعه عن الوقوع في العار، والسعي في الإضرار، وقيل حاجية على الخلاف‏.‏

ولا تشترط في الإقرار لقوة الوازع الطبعي، ودفع المشقة عن النفوس مصلحة، ولو أفضت إلى مخالفة القواعد، وهي ضرورية مؤثرة في الترخيص كالبلد الذي يتعذر فيه العدول قال ابن زيد في النوادر‏:‏ تقبل شهادة أمثلهم حالا لأنه ضرورة، وكذلك يلزم في القضاة، وولاة الأمور، وحاجية في الأوصياء على الخلاف في عدم اشتراط العدالة، وتمامية في السلم، والمساقاة، وبيع الغائب، فإن في منعها مشقة على الناس، وهي من تتمات معاشهم‏.‏

وهو أيضا ينقسم إلى‏:‏ ما اعتبره الشرع، وإلى ما ألغاه، وإلى ما جهل حاله‏.‏

والأول ينقسم إلى‏:‏ ما اعتبر نوعه في نوع لحكم كاعتبار نوع الإسكار في نوع التحريم، وإلى ما اعتبر جنسه في جنسه كالتعليل بمطلق المصلحة كإقامة الشرب مقام القذف لأنه مظنته، وإلى ما اعتبر نوعه في جنسه كاعتبار الأخوة في التقديم في الميراث، فتقدم في النكاح، وإلى ما اعتبر جنسه في نوع الحكم، كإسقاط الصلاة عن الحائض بالمشقة، فإن المشقة جنس، وهو أي الإسقاط نوع من الرخص، فتأثير النوع في النوع مقدم على تأثير النوع في الجنس، وتأثير النوع في الجنس مقدم على تأثير الجنس في النوع، وهو مقدم على تأثير الجنس في الجنس‏.‏

والملغى‏:‏ نحو المنع من زراعة العنب خشية الخمر‏.‏

والذي جهل أمره‏:‏ هو المصلحة المرسلة التي نحن نقول بها، وعند التحقيق هي عامة في المذاهب‏.‏

الرابع‏:‏ الشبه قال القاضي أبو بكر‏:‏ هو الوصف الذي لا يناسب بذاته، ويستلزم المناسب لذاته، وقد شهد الشرع لتأثير جنسه القريب في جنس الحكم القريب، والشبه يقع في الحكم كشبه العبد المقتول بالحر، وشبهه بسائر المملوكات، وعند ابن علية يقع الشبه في الصورة كرد الجلسة الثانية إلى الجلسة الأولى في الحكم‏.‏

وعند الإمام‏:‏ التسوية بين الأمرين إذا غلب على الظن أنه مستلزم للحكم، أو لما هو علة للحكم صح القياس، وهو ليس بحجة عند القاضي منا‏.‏

الخامس الدوران‏:‏ وهو عبارة عن اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف، وعدمه مع عدمه، وفيه خلاف، والأكثرون من أصحابنا، وغيرهم يقولون بكونه حجة‏.‏

السادس السبر، والتقسيم‏:‏ وهو أن يقول‏:‏ إما أن يكون الحكم معللا بكذا، أو بكذا، أو بكذا، والكل باطل إلا كذا، فيتعين‏.‏

السابع الطرد‏:‏ وهو عبارة عن اقتران الحكم بسائر صور الوصف، وليس مناسبا، ولا مستلزما للمناسب، وفيه خلاف‏.‏

الثامن تنقيح المناط‏:‏ وهو إلغاء الفارق، فيشتركان في الحكم‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ في الدال على عدم اعتبار العلة

وهو خمسة‏:‏

الأول النقض، وهو وجود الوصف بدون الحكم‏.‏

وفيه أربعة مذاهب‏:‏ ثالثها إن وجد المانع في صورة النقض، فلا يقدح، وإلا قدح، ورابعها إن نص عليها لم يقدح، وإلا قدح‏.‏

وجواب النقض إما بمنع وجود الوصف في صورة النقض، أو بالتزام الحكم فيها‏.‏

الثاني عدم التأثير‏:‏ وهو أن يكون الحكم موجودا مع وصف، ثم يعدم ذلك الوصف، ويبقى الحكم، فيقدح ذلك في غلبته بخلاف العكس، وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى، فلا يقدح لأن العلل الشرعية يخلف بعضها بعضا‏.‏

الثالث القلب‏:‏ وهو إثبات نقيض الحكم بعين العلة كقولنا في الاعتكاف لبث في مكان مخصوص، فلا يستقل بنفسه قياسا على الوقوف بعرفة، فيكون الصوم شرطا فيه، فيقول السائل لبث في مكان مخصوص، فلا يكون الصوم شرطا فيه كالوقوف بعرفة‏.‏

وهو إما أن يقصد به إثبات مذهب السائل، أو إبطال مذهب المستدل‏.‏

فالأول كما سبق، والثاني‏:‏ كما يقول الحنفي‏:‏ المسح ركن من أركان الوضوء، فلا يكفي فيه أقل ما يمكن أصله الوجه، فيقول الشافعي ركن من أركان الوضوء، فلا يقدر بالربع أصله الوجه‏.‏

الرابع‏:‏ القول بالموجب‏:‏ وهو تسليم ما ادعاه المستدل موجب علته مع بقاء الخلاف في صورة النزاع‏.‏

الخامس‏:‏ الفرق‏:‏ وهو إبداء معنى مناسب للحكم في إحدى الصورتين مفقود في الأخرى، وقدحه مبني على أن الحكم لا يعلل بعلتين لاحتمال أن يكون الفارق إحداهما، فلا يلزم من عدمه عدم الحكم لاستقلال الحكم بإحدى العلتين‏.‏

الفصل الخامس‏:‏ في تعدد العلل

يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين خلافا لبعضهم كوجوب الوضوء على من بال، ولامس، ولا يجوز بمستنبطتين لأن الأصل عدم الاستقلال، فيجعلان علة واحدة‏.‏

الفصل السادس‏:‏ في أنواعها

وهي أحد عشر نوعا‏.‏

الأول‏:‏ التعليل بالمحل فيه خلاف‏.‏ قال الإمام فخر الدين‏:‏ إن جوزنا أن تكون العلة قاصرة جوزناه كتعليل الخمر بكونه خمرا، والبر يحرم الربا فيه لكونه برا‏.‏

الثاني‏:‏ الوصف إن لم يكن منضبطا جاز التعليل بالحكمة، وفيه خلاف‏.‏

والحكمة هي التي لأجلها صار الوصف علة كذهاب العقل الموجب لجعل الإسكار علة‏.‏

الثالث‏:‏ يجوز التعليل بالعدم خلافا لبعض الفقهاء، فإن عدم العلة علة لعدم المعلول‏.‏

الرابع‏:‏ المانعون من التعليل بالعدم امتنعوا من التعليل بالإضافات لأنها عدم‏.‏

الخامس‏:‏ يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي خلافا لقوم كقولنا نجس، فيحرم‏.‏

السادس‏:‏ يجوز التعليل بالأوصاف العرفية كالشرف، والخسة بشرط اطرادها، وتمييزها عن غيرها‏.‏

السابع‏:‏ يجوز التعليل بالعلة المركبة عند الأكثرين كالقتل العمد العدوان‏.‏

الثامن‏:‏ يجوز التعليل عند أصحابنا بالعلة القاصرة، وعند الشافعي، وأكثر المتكلمين خلافا لأبي حنيفة، وأصحابه إلا أن تكون منصوصة لأن فائدة التعليل عند الحنفية التعدية للفرع، وقد انتفت، وجوابهم نفي سكون النفس للحكم، والاطلاع على مقصود الشرع فيه‏.‏

التاسع‏:‏ اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم‏.‏

العاشر‏:‏ اختار الإمام أنه لايجوز التعليل بالأوصاف المقدرة خلافا لبعض الفقهاء كتعليل العتق عن الغير بتقدير الملك‏.‏

الحادي عشر‏:‏ يجوز تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي، ولا يتوقف على وجود المقتضى عند الإمام خلافا للأكثرين في التوقف، وهذا هو تعليل انتفاء الحكم بالمانع، فهو يقول المانع هو ضد علة الثبوت، والشيء لا يتوقف على ضده‏.‏

وجوابه‏:‏ أنه لا يحسن في العادة أن يقال للأعمى إنه لا يبصر زيدا للجدار الذي بينهما، وإنما يحسن ذلك في البصير‏.‏